
" أنا عاوزه أنزل عند صفين النخل !"
كان يوما شاقا مررت فيه بالكثير من التعب ، أحد أيام الصيف التى أصبحت عادية من كثره تكرارها ، عندما يصبح العرق السائل على جسدك و كأنه حمام متصل لا ينقطع طوال اليوم و لا تفلح اى محاوله لوقف هذا الشلال الهادر من العرق في ظل هذه الأجواء الحارة ، و تظل طوال الوقت تترحم على أيام الشتاء الجميله التى لا يمكن تعويضها . أو تحلم بسيارة اهم ميزه بها ان فيها تكييف !!
يوم حار متعب أخر مثله مثل أى يوم
ركبت فيه مواصلات لدرجة أننى لا أستطيع تذكر عدد العربات التى ركبتها هذا اليوم ، مجموعه من المصالح الحكومية الممله التى تذهب إليها لكى تقضى حاجتك منها و لكى تتعلم فنون الصبر و تعلم إلى أى مدى و صلت البيروقراطية المصرية في التأخر ،و مصالح حياتية خاصه بالعمل ، و مواعيد مع بعض الشخصيات الهامة التى لم تقابلها منذ فترة و تريد أن تبقى علاقتك قويه بها ، بالإضافه إلى بعض المشاوير الصغيره الى لا تتم إلا في مدينة الفيوم العاصمة نفسها قبل إنتقالى إلى سكنى الكائن في أحد مراكز الفيوم ( سنورس) .
يوم حار متعب أخر مثله مثل أي يوم
لكن الجميل فيه هو أنك استطعت أن تنجز كل هذا قبل الثالثه ظهرا ، لا تعلم كيف و لا بأى طريقه لكنك لم تحاول أن تسئل نفسك هذه الأسئله لأن الأهم هو أن ما خرجت لأجله قد إنتهى على خير و بقدرات جبارة لم تكن تعلم أنها مدفونه بك ، فانت لم تكن تعلم أنك يمكنك أن تتحمل كل هذا التعب داخل وسائل المواصلات و لا أن تنجز كل هذه المهام في هذا الوقت البسيط .
يوم حار متعب أخر مثله مثل أي يوم
لكن الأجمل هو أنى الآن أجلس في سيارة الأجرة الأخيرة التى سوف أستقلها هذا اليوم التى سوف تنقلنى إلى المنزل أخيرا بعد كل هذا العناء ، و أراها –أقصد السيارة طبعا _ كمركب سوف يقلنى إلى أهلى مرة أخرى بعد رحله سفر طويله .
" أنا عاوزه أنزل عند صفين النخل !"
للمرة الثانية أسمع هذه الجمله من السيدة المسنه التى تجلس بجوارى و يفصل بينى و بينها حفيدها الصغير ذو الأعوام الخمسه ، هى تطلب من الجالسين أن يرشدوها إلى الطريق و ان ينزلوها عند "صفين النخل " ......أى صفين النخل ؟
ـ فين صفين النخل دى يا أمى ؟
ـ في العزبة إللى متجوزه فيها بنتى
ـ و العزبة دى اسمها إيه .
ـ مش عارفه ! بس هى عند الطريق إللى فيه صفين النخل
و بدأت حلقه من التعليقات بين ركاب العربة كنت انا أخر من يمكن ان يشارك بها ، فانا مرهق جسديا و ذهنيا بإلاضافه إلى الحر الشديد و إذا أضفنا إلى هذا ان السيده تبدو في غاية السذاجة _ وهذا بالطبع يزيد الموضوع صعوبة – فإن القرار السليم في مثل هذه المواقف أن تتخلى عن الفضول الذى بداخلك و أن تسند رأسك إلى النافذة التى بجوارك لتنظر إلى الطريق و تحاول تجاهل الحوار الطويل الذى يدور بجوارك .
ـ إنت منين يا أمى ؟
ـ أنا من ( .......) " قرية ليس لها علاقه بمدينة الفيوم و لا بالمركز الذى نحن في الطريق إليه "
ـ !!!!
ـ و إيه إللى ركبك هنا ، دا إحنا رايحين سنورس ( حيث أسكن )
ـ سنورس ! أنا عمرى ما رحت سنورس ! أنا عاوزه أروح عندى بنتى !
ـ ما احنا مش عارفين بنتك دى فين
ـ عند صفين النخل
ـ ايوة ، يعنى صفين النخل دول فين
ـ أنا إللى أعرفه إنى من البلد إللى انا ساكنه فيها بركب عربية بقول له نزلنى عند صفين النخل بينزلنى هناك ، لكن النهارده ركبنا في عربية غلط فجت بينا على الفيوم و الناس هناك قالوا لى في الموقف اركبى لسنورس و اسئلى عن صفين النخل في الطريق .
ـ لكن يا أمى الطريق ده إحنا بنركب عليه كل يوم و محدش سمع عن مكان فيه اسمه صفين النخل . حد سمع عن حته إسمها صفين النخل يا جماعه ؟
ـ أبدا
ـ صفين النخل ! أكيد إنت غلطانه مش معقول يكون ده إسم مكان
ـ يا أمى حاولى تفتكرى إسم العزية إللى ساكنه فيها بنتك ، أو الطريق إللى عليه العزبة يوصل بين اى مدينيتن .....أى حاجى تساعدنا إننا نساعدك .
ـ بنتى ساكنه عند صفين النخل !
أمرأه كبيرة السن ، قليله العلم ، قليله المال (غالبا) تاهت في زحمة الحياه في طريقها إلى بيت أبنتها .....هذا ما كان ينقصنى بعد هذا اليوم الطويل . أى محاوله لمساعده هذه المرأة سوف تبوأ بالفشل بالتأكيد ، فلا توجد أي معلومات يمكن أن تساعدنا بها وهى في الأصل غير قادرة على مساعده نفسها .
لتنزل الرحمه الإلهية على هذه المرأه العجوزة أو لتتحمل ما سوف تقدمه هذه الرحله لها من متاعب !
" هو السواق غير الطريق ليه ؟ "
تسائل أحد الركاب إلى صبى العربية الذى كان منشغلا في عد المال الذى أخده منا ، و كانت فرصه لتغيير دفة الحديث من المرأه العجوز إلى شئ أخر .
ـ أصل فيه كمين على الطريق و الظابط واقف و إحنا هناخد الطريق القديم .
كان هذا البيان يعنى أن مسافة الرحله سوف تزيد لمده عشر دقائق بسب إستخدامنا للطريق القديم .
"مش مهم 10 دقايق تأخير بس المهم أننا نصل في النهاية "
هكذا حدثت نفسي
في أول توقف للعربة أخرجت المرأه رأسها من العربة و سألت أحد المارين :
"متعرفش الطريق إللى فيه صفين النخل فين ؟"
ـ صفين النخل ..........مم ، غالبا أخر الطريق ده
أستبشر الجالسون خيرا ، فمعنى هذا ان المرأه سوف تجد طريقها ، لكنى تأكدت من أن هذا الرجل لا يعلم شيئا و هو " من أولاد الحلال إللى لم تسألهم على مكان يدلوك على أى مكان تانى هما عارفينه ، بس أهم حاجه إنهم هيدلوك و خلاص "
و لسابق خبرة في مثل هذه المواقف
و لشعور شخصى عميق تجاه شكل الرجل تأكدت أنه لا يعلم المكان ، لكنه بيحاول يساعد بطريقته ، فنحن سوف نسير إلى نهاية الطريق كما قال فلو وجدنا المكان الذى سألنا عنه فيكون بذلك قد قدم لنا خدمة ، و إن لم نجد فإننا لن نخسر شيئا فهذا هو مسارنا الجديد الذى سوف نسير عليه سواء كنا نبحث عن صفين النخل أو لا !!
ـ طيب يا أمى إنتى عارفه شكل الطريق كويس ؟
ـ ايوه ، عارفه كويس ، دا انا كل شهر بروح أزور بنتى و لو شفته هعرفه على طول .
ـ طيب حاولى تركزى في الطريق يمكن تعرفيه !
" هو السواق غير الطريق تانى ليه ؟ "
كان السؤال هذه المرة بحده أكثر و بصوت مرتفع و من أكثر من شخص من الركاب بعد أن غير السائق طريقه للمرة الثالثه ليأخذ أحد الطرق القديمة التى لم تعد مستعمله و التى تزيد زمن الطرق لعشر دقائق أخر ، كل هذا جعل الغضب المتصاعد من الركاب يزيد في محاوله لمعرفه سبب هذا التغيير ، و كنت قد بدأت بالحديث مبديا غضبى من تأخرنا في الطريق لمده 20 دقيقه بدون معنى سوف ان السائق يخاف أن يكون هناك كمين في الطريق !
لكن كل هذا الغضب المتصاعد من الركاب كان مصيره إلى لا شئ لأن السائق لن يغيير رأيه ولى مش عاجبه ينزل ، و بالطبع من سينزل فى هذا الطريق لن يجد أى سياره تقله إلى حيث يريد الذهاب .
الغضب إنتهى إلى الهواء
و السائق إنتصر في النهاية مستخدما الطريقه الإسرائيلية فى فرض سياسه " الأمر الواقع " .
المرأه العجوز مازالت تنظر في النافذة بحثا عن صفين النخل .
و تليفونات المحمول بدأت بالعمل معلنه إعتذار صاحبها عن التاخر عن ميعاده لمدة 20 دقيقة بسبب زحمه المرور .
و كنت مازلت مسندا رأسى على النافذة ناظرا إلى الخارج الذى أصبح أكثر خضره بسبب كثرة الأراضى المزروعه في هذا الطريق القديم ، اعصابي أصبحت أكثر هدوءا و تركت لنفسى العنان في التأمل في مشاهد الريف الجميل .
ما أجملها من حياه !
حيث الدنيا في منتهى البساطة و راحة البال بعيدا عن ضوضاء المدينه و مشاغلها و عرباتها و محلاتها و شوارعها ومولاتها و مشاجراتها .......إلخ
الهواء هنا ليس مختلطا بعوادم السيارات و لا بدخان المصانع .
و السماء هنا يمكنك رؤيتها دون الحاجة إلى أن تصعد فوق منزلك .
الناس هنا في منتهى الطيبة و لم يفقدوا بعد الكثير من براءتهم .
هنا الحياه تسير على الفطرة
تماما مثل هذه المرأه العجوز
" ايوة ......أيوة .....هو ده صفين النخل ، نزلنى هنا ....نزلنى هنا ....هما دول صفين النخل ....نزلنى هنا "
كانت المراة مازالت تنظر من النافذة بحثا عن الطريق المؤدى إلى بيت ابنتها ، و كان كل من في السيارة قد نسيها بعد ان اعلنوا لها أن أفضل حل أن تظل معنا إلى نهايه الخط ثم تركب إلى منزلها و من هناك تركب من جديد لبيت أبنتها اليوم او فى اى يوم أخر .
" نزلنى يا بنى هنا .....نزلنى ربنا يرضى عنك "
ونزلت المرأه أمام طريق عليه صف طويل من النخل على جانبيه تماما مثلما وصفت المرأة العجوز .
نزلت وسط علامات التعجب والدهشة على وجوه الجالسين .
السائق غير مساره مرتين ليسلك طريق لا نسلكه عاده من اجل ان تصل هذه المرأه لصفين النخل
سبحان الله !!