الثلاثاء، فبراير ٠٣، ٢٠٠٩

عندما نحزن ...!!


" المريض الذي يوقظك ليلا من أعز نومه لكي تقوم بإجراء الفحوصات عليه هو واحد من اثنين : 
شخص سوف تجعله يبكى 
أو شخص سوف تبكي عليه ! " 
من نصائح النواب بعضهم لبعض مع بداية العمل في المستشفيات 
* و النائب : هو الطبيب المقيم في المستشفى و الذي يظل يعمل 24 ساعة متصلة على الأقل في بداية نيابته و لمده 4 أيام على الأقل في الأسبوع *

********************

صور أفلام الأشعة المقطعية على الرأس تتابع في الظهور على شاشة الكمبيوتر ببطء ........واحده بعد الأخرى . 
و والد المريض يبدو امامى من خلف الحاجز الزجاجي الذي يفصلني أنا الجالس أمام شاشة الكمبيوتر عن المريض الراقد على جهاز الأشعة المقطعية و بجواره والده . 
بجواري يقف عامل القسم الذي هو مثال تقليدي عما يمكن أن يفعله الجهل و الفقر في أبناء مصر . أثار النعاس تبدو على وجهه مثلما تبدو على وجهي أيضا في ليله شديدة البرودة يوقظك فيها أحد المرضى ليخبرك أن ابنه قد أصطدم برأسه جسم صلب منذ يومين و أنه يشعر الآن بعد مرور 30 ساعة بصداع في رأسه ! 
و إذا حاولت أن تسأل السؤال التقليدي و المنطقي الوحيد في هذه الحالة_ و الذي لم أعد أسأله من طول التجربة و الخبرة _ عن السبب الذي منع الأب من إحضار الابن بعد الحادث لإجراء الأشعة عليه فسوف تجد إجابات تقليديه و"منطقية جدا " من قبل المريض عن ضيق ذات اليد و عن أنه ظن أن الحادثة قد مرت على خير و لم نرد أن نكبر الموضوع !

الأفلام تتابع في الظهور و النعاس يغطى على عيناي رويدا رويدا يحثني على إنهاء هذه العملية المملة في أسرع وقت لاستكمال الراحة قبل بدأ يوم جديد شاق و متعب .........وفي رأسي تدور أفكار من نوعيه " لو كان أصيب بشيء خطير ما كان قد جاءني سائرا على قدميه و بكامل وعيه " 

العامل الذي تبدو عليه أثار الفقر و الجهل هو صورة مكررة نقابلها كل يوم في حياتنا عن الرجل البسيط الذي يعيش في منزل بسيط هو و أمه وأبوه و زوجته و أولاده( وعددهم يتكون من رقمين بالتأكيد )، و هو يعيش على مرتب هزيل لكنه ينتظر الإحسان من كل المحيطين به حتى يستمر هو و أبوه و أمه و زوجته و أولاده على قيد الحياة ، و هو لا يعلم من أمور الدنيا غير المكان الذي يسكن فيه و المكان الذي يعمل فيه ومن يتعامل معهم في محيط السكن و العمل ، بالطبع هو لا يعلم أي شئ عن فلسطين و حماس و لم يشغله في يوم من الأيام لجنه السياسات ولا أسعار الحديد و الصلب .و بالتأكيد لم يهتف بشعار " يسقط يسقط حسنى مبارك " ولا دندن مع شيرين و هى تغنى " مشربتش من نيلها ....جربت تغنى لها " ...هذا العامل اسمع صوت صدره جيدا وهو يخبرني بان هذا العامل لدية "حساسية على الصدر " بصورة مزمنة ومنذ فترة طويلة .

كانت الصور تتابع في الظهور على شاشه الكمبيوتر مخبره أنه لا جديد تحت الشمس و أن الابن سليم معافى ، و كان قد تبقى 4 أو 5 صور أخرى لنعلن بكل ثقة سلامه الابن .
العامل و بكل تلقائية و بساطه في التفكير دخل على الابن و الأب في الغرفة و أنبائهم بكل بساطه أنها " الحمد الله سليمة ومفيش حاجة " 
الأب لم يتمالك نفسه من الفرح فخر ساجدا لله 
وكنت أنا من خلف الزجاج أرى الأب و هو يخر ساجدا و في نفس الوقت أرى الصورة تظهر امامى على شاشة الكمبيوتر تخبرني بنزيف كبير في الرأس في حاجة إلى تدخل جراحي سريع و عاجل !!
و مع وقوف الأب من السجود كانت الصورة التي تليها قد ظهرت تخبرني أيضا أن الحالة أسوأ بكثير مما أظن !!

صوت عبارات الحمد و الشكر من قبل الأب تصل إلى مسامعي من خلف الزجاج ، لكنه لكي يزداد ثقة جاء إلى مستفسرا منى و ليتأكد من صدق بشارة العامل : 
_ خير يا دكتور ؟


" لا تعطى المريض أو أقاربه أي عبارات تدفعهم إلى "الأمل الشديد " أو " اليأس الشديد " .......في الطب نحن نسير بمقادير الله ، ما نظنه غير قابل للعلاج قد يتحول في لحظات إلى داء سهل وبسيط ، و ما نظنه سهل و بسيط قد يتحول في لحظات إلى كارثة تودي بحياة المريض "

ــ خير يا أبويا ؟ 
ـ طمنى يا دكتور ، إلهي يطمن قلبك ، فيه حاجة ؟ 
ـ هو فيه حاجة بسيطة في المخ ممكن تحتاج عمليه ، لكن بسيطة إن شاء الله . 
ـ حاجه إيه ؟
ـ.................
ـ قول يا دكتور و متخبيش عليا 
ـ هو نزيف بسيط لكن إن شاء الله هيحتاج عملية سهله بعدها هيكون كويس .
الرجل أصفر وجهه 
و أنا كنت في قمة تأثري و أنا أرى الرجل يتحول أمامي من قمة حاله السرور و الفرح إلى قمة القلق . 

وبدا لي و قتها كيف يمكن للدنيا أن تنقلب عليك من السعادة إلى الشقاء لمجرد ظهور صورة على شاشه الكمبيوتر >


*************************

أثناء الأزمات نظهر على حقيقتنا ......."حقيقة من واقع الحياة "

*********************

دخلت الأم تحمل أبنها ذو 20 يوما على صدرها وهى تحتضنه بشده ، و خلفها زوجها و على وجهه علامات الحزن و من خلفهم جميعا أمرأه كبيرة في السن ترتدى الثوب الأسود المييز للسيدات في أرياف مصر المحروسة علمت فيما بعد أنها أم الزوج ،وبمعنى أخر........... حماتها . 
الطفل كان ساكنا تماما 
هادئا تماما 
مثل النيل .
أمامهم كان طبيب الامتياز يعطيني طلب إجراء أشعه مقطعية على رأس المريض لأن لديهم اعتقاد بان الطفل مصاب بنقص حاد في إمداد الدم إلى أنسجة المخ من جراء خطأ حدث أثناء عملية الولادة . 
دخل الطفل إلى الحجرة و بدأت الصور تظهر على شاشة الكمبيوتر معلنه صدق الحس الطبي للأطباء .
وقبل أن نخبر الأم بنتائج الأشعة كانت قد وقعت على الأرض و بدا أنها قد فقدت الوعي . و انشغل الجميع في أفاقتها . 
بينما كنت أنا و طبيب أخر مازلنا نتابع ظهور صور المريض و محاوله معرفه التشخيص الدقيق للحالة . 
طبيب الامتياز دخلنا علينا مستفسرا : فقلنا له لقد صدقت توقعاتكم !! 
والد الطفل كان قد سمع الحوار أو أنه على الأرجح استنتج ما دار من خلال العلامات التي بدت على وجوهنا . 
عندما سألته أمه عن الأخبار كان رد فعله هو رد الفعل الذي شاهدته بعد ذلك يتكرر كثيرا امامى من الرجال في مصر عندما يعلم أن قد أصبح عاجزا و غير قادر على القيام بأى شئ :
 
أسند وجهه إلى الحائط ، و مال برأسه إلى الأسفل ناظرا إلى الحائط و معطيا ظهره لكل المحيطين به ......وبدا كأنه سيبكى بكاء العاجز !!
هو الطفل الأول و الوحيد بعد سنيين من انتظاره . 
وإذا أضفنا إلى ذلك أنه مسيحي _بمعنى أنه لا يستطيع الزواج من أخرى من أجل إنجاب أطفال _ فإن أعمده بيت الحزن تكون قد اكتملت و لم يتبقى إلى التشطيبات الخارجية .
التي بدأت سريعا مع صوت المرأة العجوز و هي تندب و تولول على حفيدها ، وفي نفس الوقت تحاول إفاقة زوجه أبنها الراقدة أمامها : 
قومي يا بنتى عشان تشوفى المستقبل الإسود إللى مستنيك 
قومي عشان تبكى على أبنك 
قومي عشان تندبى معايا 

في لحظات معدودة شعرت أن السواد يغطى الجدران و المكان ، و كلمات المرأة العجوز زادت من هذا الشعور . 
حاولت تهدئة المرأة العجوز لكنه ثبت لي بالتجربة أن أي محاوله للتهدئة سوف تأتى بنتائج عكسية . 
طلبت الأمن لينهى هذا الموضوع ، بينما كان رفيقي في النبطشية يسألني : 
هنتعشى إيه النهارده ؟